إن علاج استيلاء النفس الأمارة على قلب المؤمن محاسبتها
ومخالفتها ، أخرج
الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : "
حاسبوا أنفسكم
قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا ، فإن أهون عليكم
في الحساب
غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذٍ تعرضون
لا
تخفى منكم خافية "(رواه الترمذي) .
وقال الحسن : " المؤمن قوام على
نفسه
يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر
من
غير محاسبة ، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول والله إني لأشتهيك
وإنك
لمن حاجتي ، ولكن والله ما من حيلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط
منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا ، مالي ولهذا ، والله
لا
أعود إلى هذا أبدًا .
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن ، وحال بين
هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئـًا
حتى يلقى الله ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي
جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله " .
قال مالك بن دينار : " رحم الله
عبدًا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟! ، ألست صاحبة كذا ؟! ثم زمها ، ثم
خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل ، فكان لها قائدًا " .
فحق على
الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها
في حركاتها وسكناتها وخطراتها ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ
تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً )(آل عمران/30)
.
ومحاسبة النفس نوعان :
نوع قبل العمل ، ونوع بعده :
أما النوع الأول
: فهو أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه
.
قال الحسن - رحمه الله - : " رحم الله عبدًا وقف عند همه ، فإن كان لله أمضاه
، وإن كان لغيره تأخر " .
وشرح
بعضهم هذا فقال : إذا تحركت النفس لعمل من
الأعمال وهمَّ به العبد وقف
أولاً ونظر هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور
عليه ، ولا مستطاع ، فإن
لم يكن مقدورًا عليه لم يقدم عليه وإن كان مقدورًا
عليه وقف وقفةً أخرى
ونظر ، هل فعله خير من تركه ؟ أو تركه خير له من فعله ؟
فإن كان الثاني
تركه ولم يقدم عليه ، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة : هل الباعث
عليه إرادة
وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق
؟
فإن
كان الثاني لم يقدم ، وإن افضى به إلى مطلوبه ، لئلا تعتاد النفس
الشرك
ويخف عليها العمل لغير الله ، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل
لله
تعالى حتى يصير أثقل شيء عليها ، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر هل هو
معان عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجـًا إلى ذلك أم
لا ؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه ، كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم
-
عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجده معانـًا عليه فليقدم
عليه فإنه منصور بإذن الله ،ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه
الخصال
، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح ، فهذه أربعة مقامات يحتاج العبد
إلى
محاسبة نفسه عليها قبل العمل .
وأما النوع الثاني : فمحاسبة النفس
بعد العمل وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله
تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ، وحق الله في الطاعة ستة أمور :
-
الإخلاص في العمل .
- ا لنصيحة لله فيه .
- متابعة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - .
- شهود مشهد الإحسان .
- شهود منة الله .
- شهود تقصيره فيه بعد
ذلك كله .
فيحاسب نفسه هل وَفَّى هذه المقامات حقها ؟ وهل أتى بها في هذه
الطاعة؟
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله
.
الثالث
: أن يحاسب نفسه على أمر مباحٍ لِمَ فعله ؟ وهل أراد به الله والدار
الآخرة؟ فيكون رابحـًا ، أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح
ويفوته
الظفر به .
وإذا أهمل العبد نفسه وترك محاسبتها واسترسل مع رغباته
فإن هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب
ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة ، وإذا فعل ذلك
سهل
عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن
الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد .
وجماع ذلك : أن
يحاسب نفسه أولاً على الفرائض ، فإن تذكر نقصـًا تداركه إما بقضاء أو
إصلاح
، ثم يحاسبها على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئـًا تداركه بالتوبة
والاستغفار والحسنات الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة ، فإن كان قد غفل
عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ، ثم يحاسبها بما تكلم
به أو مشته رجلاه أو بطشت يداه أو سمعته أذناه ماذا أرادت بهذا؟ وَلِمَ
فَعلته وعلى أي وجه فعلته .. قال الله تعالى : (فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الحجر/92 ،
93) .
وقال تعالى : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)(الأعراف/6 ، 7) .
وقال تعالى : (لِيَسْأَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ )(الأحزاب/ .
فإذا
سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين .
وقال تعالى : (ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(التكاثر/
.
قال
محمد بن جرير - رحمه الله - : يقول الله تعالى ثم ليسألنكم الله عز وجل
عن
النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه ؟ ومن أين وصلتم إليه ؟
وفيم أصبتموه ؟ وماذا عملتم به ؟
وقال قتادة : إن الله سائل كل عبد عمَّا
استودعه من نعمه وحقه .
والنعيم المسؤول عنه نوعان : نوع أخذ من حِله وصرف في
حقه ، فيُسأل عن شكره .
ونوع : أخذ بغير حِله وصرف في غير حقه فيُسأل عن مستخرجه
ومصرفه .
فإذا
كان العبد مسؤولاً ومحاسبـًا على كل شيء حتى على سمعه
وبصره وقلبه كما قال
تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ
أُولَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء/36) فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن
يناقش
الحساب .
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ
لِغَدٍ)(الحشر/18) .
يقول الله تعالى : لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من
الأعمال ، أمِنَ الصالحات التي تنجيه ، أم من السيئات التي توبقه ؟
قال قتادة :
مازال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغدٍ .
والمقصود : إن صلاح القلب بمحاسبة
النفس وفساده بإهمالها والاسترسال معها .
المصدر: البحر الرائق للشيخ أحمد فريد