حوار حضاري في المسجد الحرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

قرأت في مقال يسمى بالحوار الحضاري , وكان موقعه في المسجد الحرام ( الحرم المكي ) .

حينما الحت عليّ اختي للذهاب الى العمره , واختي - من وجهة نظري - من ذلك النوع الذي لايحب الخروج عن الدائره في هذه الرحله ذات الثلاثة ايام ..
ولا انكر ذلك الانشراح النفسي الذي يغمرني في بيت الله الحرام , خصوصاً في هذا الوقت الهاديء من العام . بعد صلاة العشاء في الحرم المكي , تلفتّ واذا بشاب اشقر ,طويل القامه, عيناه بلون البحر,لاتخطي عيناك اوروبيته من النظره الاولى . تسربل بذلك الاحرام ليعطيه شكلاً لكم تألفه عيني , اذ نادراً ماترى اوروبياً مسلماً , فبدا مظهره في الاحرام كأنه صورة صغيره ركب عليها برواز كبير غليظ لا يناسقها بالحجم ولا بالشكل,ولكن سبحان من استجاب دعاء ابراهيم " واجعل افئدة من الناس تهوى اليهم ..." , ابتسم في وجهي فرددت ابتسامته بمثلها او بأحسن منها وهممت بسؤاله بلغة انجليزية ذات " راء " امريكيه اعكس فيها فشخرتي واستعراضي بثقافتي الامريكيه , الا انه فاجئني بقوله :
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا اخي ... كان يتحدث بعربية فصحى تعرضت حروفها للكسر والعجمه من لسانه .
- وعليكم السلام يا اخي ..
- من اي بلاد انت يا اخي ؟
-انا من الكويت وهل تعرفها ؟ وانت من اين ؟ احسست بأني في مسلسل مدبلج او " افتح ياسمسم " وانا اتحدث العربيه الفصحى لأول مره في حياتي , ففي مشوار حياتي كلها كنت اتحدث بلهجة خليجية ,وقد الجأ من باب المداعبه للتحدث بلهجة عراقية ,مصرية,لبنانية .. لكن ان اتحدث العربية الفصحى فقد كان غريباً بعض الشيء .
- انا من هولندا , ولا اعرف عن الكويت غير رمها على الخريطة وانكم محظوظون لأنكم بلد عربي ومسلم .
- وانتم محظوظون في هولندا , لانكم تتسممون بالافيون والحشيش في مقاهيكم , وتحت اعين الشرطة .
ابتسم , وهو يرد على دعابتي بعربية فصحى : وانتم محظوظون لاتصالكم بسر الخلود .. وافيون السعادة الذي يخرجكم عن الدائرة !
- اي دائرة تعني ؟
- الدائرة التي يعيشها الانسان : ولادة .. دراسة .. عمل .. زواج ثم فناء !!
سبحان الله هذا الاشقر الاحمر , الذي جاء من اخر اقاصي اوروبا يتحدث بنفس لغة تفكيري ! ويعرف الدائرة ,اطرقت قليلاً وقلت له :
- مالذي يخرجني من الدائرة ؟ فكلنا محكومون بها !
- سر الخروج عن الدائرة انتم من يملكه , وخروجك عن الدائرة يجب ان يكون ضمن الدائرة !!
- لم افهم شيئاً من فلسفتك , كيف اخرج من الدائرة وانا امشي فيها ؟
- الفرق بيننا وبينكم بأننا نحتاج الى ان نبحث ونقرأ ونقارن بين الفلسفات والديانات حتى نصل الى الحقيقة , اما انتم فمحفوظون لأنكم ورثتموها جاهزة بكل يسر .. ولعل تلك الوراثه هي التي منعتكم من التفكير فيها ..
- حيرتني معك ياهذا .. لم افهم شي مما تقول .
-تخيل انك في ممر طويل ومظلم , ترى في اخره بابان .. وكل انسان مجبور ان يمشي لآخر الممر , وحينما يصل سيفتح له احد البابين ليدخله , منظر غريب , تخيل ان الناس الماشون في هذا الممر على صنفين , صنف يعلم ما وراء كل باب وصنف حيران لايدري ولا يمكن له ان يتخيل ما وراء البابين , ولكن الجميع يمشي نحو البابين , فما هو الفرق في نظرك بين نفسية الصنفين ؟
- امممم .. لعل الذي يعلم ما وراء الباب سيحس بطعم مشيه وسببه .. اما الاخرون فلا مذاق لخطواتهم وستكون نفسياتهم مضطربه قلقه طوال الطريق ..
- هذا مثلنا ومثلكم .. فالاسلام قد بين لكم نهاية رحلة الدنيا , اما نحن فلا ندري لماذا نقطع هذه الرحله او نعيش في هذه الدائرة وتحار عقولنا وقلوبنا في ان تجد تفسيراً لرحلة الحياة , لذا نحاول ان نتلذذ بكل المتع التي نراها في الطريق المظلم , ولكن ينقصنا معرفة النهاية .
- لكن المسيحية دلتكم على طريق النهاية .
- عذرأ لعلي اخطأت في التوضيح .. المعرفة شيء, والايميان شي اخر , الكثير منا يعرف النهاية لكن قلة منا هم الذين يؤمنون بها ويوقنون بما وراء الباب ! وهذا الايمان واليقين لايعرفه الا من ذاق اللذه .
- وكيف تتذوق اللذه ؟
- بالنسبة لي فقد عشت في الظلام لسنوات طويله , لذا حينما رأيت النور عرفت الفرق .. عرفت اللذه .
شعرت بأن هذا الاوروبي قد ذاق شيئاً في الدين لم اذقه من بعد .. واحس بحيرتي , فأكمل من تلقاء نفسه ..
- منذ سبع سنوات كنت شاباً غضاً في اول العشرينات من عمري , وذهبت لزيارة القاهره , وبالرغم من كل مايدهش الاوروبي من اهرامات وجمال ومتاحف , الا انه اكثر ماسحرني هي تلك الزياره لأحد المساجد التاريخيه , وكان ذلك وقت صلاة العصر , ووقفت عند باب الجامع لأشاهد منظراً يبدو مألوفاً لديكم , شاهدت الناس تخرج من الصلاة , فسحرني منظر تلك الوجوه الناعمه , تعلوها مسحة الايمان وتشع ضياءً وراحة نفسية .. رأيت غير الوجوه التي اعرفها في حياتي , رأيتهم يبتسمون بطيبة ورقه لم ارها من قبل لم اتمالك نفسي فاقتربت من احدهم اسأله بالانجليزية الا انه لم يكن يتحدثها فلم يفهم مابي , ولكنه حتماً لمح التشوق والتلهف في عيني فقلب في وجوه الناس حتى راى احدهم يتحدث الانجليزية فناداه , وقلت له اريد ان افعل مثلكم , اريد ان اصلي ! فابتسم الرجل وطلب مني الحضور بعد ساعتين على توقيت صلاة المغرب وافهمني بفكرة مواقيت صلاة الجماعه , ووقفت منتظراً فأخذني ذلك الرجل البسيط الفقير ودعاني الى كوب الشاي المصري الثقيل . وشرح لي بأنجليزيته المكسرة شيئاً عن الصلاة وفكرتها , وظللت اسأله وهو يجيب بصدر رحب , الى ان علا صوت الاذان من تلك القبه القاهريه المزركشة , وشعرت بالاذان ينساب في شرياني ويجري في عصبي ودمي .. وبالرغم من عدم فهمي لمعانيه الا اني شعرت بأنه نداء خاص يأتيني من فوق الغيوم ومن وراء النجوم .. ثم قمت للوضوء مع الرجل وصليت الجماعة ولم افهم سوا كلمة آمين !
- ثم اعلنت اسلامك ؟
- لا .. لكن تسربلت روحي براحة داخلية لم اشعر بها من قبل .. شعرت بأن الكون له خالق ورازق ..واني اتصلت به في تلك اللحظات .. شعرت بأني معه في تلك السجيدات والركيعات .. شعرت لأول مره اني قريب منه .. واني استطيع ان اطلب منه ما اريد .. ورحلت عن مصر , ولكن تلك اللحيظات لم تغب عن روحي للحظة , وظلت تراودني فكرة الصلاة على الطريقة الاسلامية بين الفينة والاخرى ..
- ثم ماذا ؟
- بعد عدة سنوات ارسلتني الشركة التي اعمل فيها للعمل في قرية صغيره في المانيا لعدة سنوات , في القرية رأيت منظراً غريباً كان سبباً في اسلامي !
- منظر غريب في المانيا ! مثل ماذا!
- رأيت مسجد شفافاً !
- مسجد شفاف ؟؟!!
- نعم , فحينما اراد بعض المسلمين المهاجرين في القرية بناء مسجد , سرت موجة من الاعتراضات بين اهالي القرية فقد توضع في المسجد اسلحة خفية , او قد تدار فيه خلايا ارهابية .. وغير ذلك من الكلام الفارغ الموجه للمسلمين ! وكان بين المسلمين في القرية مهندس معماري , فأقترح عليهم بناء مسجد زجاجي شفاف , يرى منه اهل القرية كل مايدار في المسجد .. وفعلا حينما مررت بذلك المسجد الشفاف ورأيت المسلمين مصطفين لصلاة المغرب , تقافزت كريات دمي شوقاً الى ذلك الشعور الذي زرع فيني من سنين يوم صليت في القاهرة .. اوقفت سيارتي وتوضأت وصليت معهم .. وخطوت خارج المسجد سابحاً في تلك اللذه التي تغمرني ..
- ثم اعلنت اسلامك ؟
-ابتسم وهو يترقب استعجالي فقال بصوت حنون : اثناء خروجي من المسجد لمحت ورقة مكتوب عليها اوقات الصلاة , واستقر في ذهني وقت صلاة الفجر , فلما غشاني الليل لم انم وانا افكر في تلك اللذه التي لو اشعر بها من قبل , وظللت اسمع تلك الهواتف في داخلي تدعوني الى الله , ولم تنقطع تلك الهواتف حتى رأيت الساعة وقد حان وقت صلاة الفجر , فخرجت من فوري الى المسجد , توضأت .. صليت .. وشعرت بقربي من خالقي .. احسست بنور يشع في قلبي ويسبح في دمي .. واثناء سجودي بكيت بنشيج .. ودون ان اعرف سبب لبكائي .. لكنه كان بكاءً ممتعاً مريحاً .
وبعد الصلاة اقبل المصلون اليّ , فأخبرتهم بأني غير مسلم .. فقام الشيخ ومسح على قلبي وقرأ سورة طه فعدت الى البكاء .. وبكى من حولي .. وكانت الحياة علمتني ان البكاء ممنوع على الرجال .. ولكن الاسلام علمني بأن البكاء قمة الرجولة !! فهذا عمر بن الخطاب الشديد القوي .. كان يبكي !! وهذا هارون الرشيد الذي ملك الارض .. كان يبكي !
اعلنت اسلامي وسط تكبير الرجال من حولي !
احسست بدمع عيني يتساقط انا الاخر , فسكت من هول قصته وانا انظر بهاء الكعبه , واسأل في نفسي : هل بكيت مرة من لذة طاعة او ذل دعاء ؟ لم لم ابكي في حياتي ؟
سكت الاوروبي لوهلة , ثم اردف :
- ومنذ اسلمت احسست بروعة الشعور بالطاعة , والاقتراب من مالك الملك , احسست بأن تلك القوة الرهيبة التي صنعت هذا الكون بمجراته ونجومه وانسانه , قد فتحت بابها لي , واذن لي بالدخول ال بلاطه في اي وقت اشاء .. وكان شعوراً رهيباً ان يسمح لأنسان مثلي ان يدخل الى بلاط ملك الملوك متى ما احتاج ان يتخفف من عبء الحياة واثقالها دون وسيط او حاجب ! ففي الاسلام هناك ارتباط مع الله في كل شيء .. فنالهك دعاء للاستيقاظ وذكر للنوم والخروج من المنزل وركوب السيارة , حتى العطسة لها ذكر خاص !
- كلام جميل كأني لأول مره استشعر هذه الحقائق ..
- هذه مشكلتكم .. ولدتم مع هذه الحقائق ! فلم تتدبروا في اسرارها .. لو تدبرت واستشعرت معنى كل دعاء من هذه الادعية لما بلغت عمقه وسره .
- مممم .. اذا هكذا تسير في الدائرة .. ولكن تعيش مستمتعاً بها ..
- نعم لو تدبرت اسرار الادعية وغصت في معاني الآيات .. واقمت علاقة سرية خاصة بالله .. فستعيش في الدائرة مع الناس ظاهرياً .. ولكنك في الحقيقة تعيش مع الله .. ومنذ ذلك اليوم اعيش في هذه الدائرة .. اكل .. اشرب .. اضحك .. اخرج .. ولكن لي علاقة خاصة مع الله , في صلاتي وليلي وفجري تجعلني سعيداً راضياً .. متشوقاً الى لقاءه .. جربها انها الحياة مع لذة الطاعة .

س/ هل بكينا في يوم من لذة الطاعة او بكينا من ذل الدعاء ؟

اللهم ادِم علينا نعمة الايمان والاسلام
واجعلنا ممن يتلذذون بطاعتك في الخفاء

جزاك الله خير
يعطيك
العافيه

كالعادة ابداع رائع

وطرح يستحق المتابعة

شكراً لك

شكراً لك

طرح يستحق المتابعة

شكراً لك